الحرب الجمركية وتحديات أمريكا اللاتينية- صراع المصالح بين أمريكا والصين

تواجه دول أمريكا اللاتينية تحديات جمة تفوق ما تعانيه بقية دول المعمورة جراء الحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. فمن جهة، تواجه هذه الدول خطرًا داهمًا يتمثل في رفع الرسوم الجمركية على صادراتها المتجهة نحو السوق الأمريكية الشاسعة. ومن جهة أخرى، تُهدد بقطع أواصر الصداقة المتينة التي نسجتها مع الصين، مما يجبرها على تحمل تكلفة باهظة لانخراطها في علاقة تعتبرها الإدارة الأمريكية "محظورة" في نظرها.
ويرى بعض المحللين في هذا السياق أن إدارة ترامب تسعى جاهدة إلى استخدام دول أمريكا اللاتينية كورقة ضغط في إطار سعيها لمعاقبة الصين على صعودها الاقتصادي المطرد.
وتُعدّ كل من المكسيك والبرازيل والأرجنتين أمثلة بارزة في المنطقة لتوضيح الرهانات التي يضعها الرئيس ترامب والتحديات الجسام التي تواجه سياساته.
ففيما يتعلق بالمكسيك، فبعد فوز الرئيس ترامب وتركيزه في حملته الانتخابية على تصوير المكسيك بصورة الدولة الضعيفة المجاورة، أدرك الأمريكيون مع مرور الوقت أن هذا الجار الجنوبي ليس بتلك الهشاشة التي صُوّر بها، وأن اقتصاده ودوره المحوري في قضية الهجرة قادران على التأثير بشكل كبير على أمنهم وقدرتهم الشرائية.
كما أن تلاعب الرئيس ترامب المتكرر بموعد تطبيق الرسوم الجمركية الجديدة، وتأجيله في كل مرة، يؤكد أن الضرر الذي سيلحق بالاقتصاد المكسيكي سينعكس سلبًا على المجتمع والاقتصاد الأمريكيين أيضًا، وذلك نظرًا للترابط الوثيق بين الاقتصادين، واعتبار المكسيك امتدادًا للاقتصاد الأمريكي فيما يتعلق بالمواد الأولية، ومواقع إنشاء المصانع، وتوفير الأيدي العاملة الرخيصة.
يُضاف إلى ذلك، جملة من العوامل الخارجية التي تعكس المخاوف الحقيقية لإدارة الرئيس ترامب من إلحاق الضرر بالاقتصاد المكسيكي. فالحكومة المكسيكية الحالية، بقيادة كلوديا شينباوم ذات الميول اليسارية، ستنتهي ولايتها في عام 2030، وبالتالي فإن احتمال وصول رئيس يميني يمتثل لسياسات البيت الأبيض خلال فترة حكم ترامب، سيكون أمرًا بالغ الصعوبة، مما يضطره إلى التفاوض مع الرئيسة شينباوم بشكل لا يدفعها إلى الارتماء في الحضن الصيني الذي يتربص بها من كثب، على الرغم من التهديدات الأمريكية المتواصلة.
فالدرس الأمريكي الأخير في بنما، بإجبار حكومتها الناشئة على وأد النفوذ الصيني في قناتها الحيوية، زاد من احتمالات توجه الصين نحو المكسيك لتعويض خسارتها في بنما، لا سيما أن الصين قد دعمت الحكومات المكسيكية في العقد الأخير بتأسيس شبكة طرق وسكك حديدية قوية تربط المحيطين: الأطلسي والهادئ.
يُضاف إلى ذلك، الدخول الصيني القوي على السواحل الغربية لأمريكا الجنوبية، وافتتاح ميناء شانكاي الضخم في بيرو في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بتكلفة قدرها 3.5 مليار دولار، مما شكل ضربة موجعة للكبرياء الأمريكي في عقر داره.
أما بالنسبة للبرازيل، فعلى الرغم من حجم معاملاتها التجارية الضخمة مع الولايات المتحدة، إلا أنها تمثل رهانًا أسهل نسبيًا بالنسبة للرئيس ترامب، الذي يتطلع بشوق إلى عودة صديقه جايير بولسونارو إلى السلطة (ولو بأساليب ملتوية)، وإنهاء الصداع المزمن المرتبط بوجود الرئيس لولا دا سيلفا في الحكم حتى ديسمبر/ كانون الأول 2026.
فالرئيس دا سيلفا قد ندد بشدة بسياسات الحرب التجارية التي لوّح بها الرئيس ترامب، واعتبرها بمثابة سياسات فوقية، يتوهم الرئيس الأمريكي أنه قادر على تطبيقها لمجرد أنه أراد ذلك، لكن الواقع يشير إلى أن هذه الدول لديها خيارات أخرى، في إشارة واضحة إلى الصين، لا سيما أن العلاقات بين البرازيل والصين قد تعززت بشكل كبير منذ يناير/ كانون الثاني 2003 مع أول فترة رئاسية للولا دا سيلفا.
ورغم تضرر الاقتصاد البرازيلي بشكل طفيف جراء سياسات الرئيس ترامب وتصريحاته المتقلبة التي أدت إلى ركود في نسق التصدير، إلا أن الرئيس دا سيلفا ما زال يسعى حثيثًا لإقناع نظرائه في المنطقة بالاتحاد، وضرورة الوثوق ببعض الشركاء من خارج القارة، وإيجاد سوق داخلية بديلة تعوض الحاجة إلى السوق الأمريكية.
إذ يرى أن الرسوم الجمركية الانتقائية تتسبب في عدم استقرار الاقتصاد العالمي وترفع الأسعار، ولا يمكن للدول "الحكيمة" أن تعتمد نهج الرسوم الحمائية؛ لأن ذلك سيجعل الجميع متورطًا في انهيار الاقتصاد العالمي.
وفي هذا السياق، استغل الرئيس البرازيلي فعاليات القمة التاسعة لمجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي منذ أيام، للدفاع عن أسس اتفاقيات التجارة الحرة ومبادئ منظمة التجارة العالمية، للتأكيد على أهمية السياسات التجارية متعددة الأطراف.
وتجدر الإشارة إلى أن تصريحات الرئيس البرازيلي في القمة المذكورة، تسبق لقاءً مرتقبًا مع نظيره الصيني في غضون شهر، بمناسبة انعقاد منتدى مجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي والصين، الذي سينعقد في خضم الحرب التجارية. علمًا أن الصين تتصدر الآن قائمة المستوردين ليس فقط لفول الصويا البرازيلي، ولكنها تلقت أيضًا 44% من صادرات النفط الخام البرازيلي في عام 2024، تلتها الولايات المتحدة بنسبة 13% فقط.
أما الأرجنتين، التي يتزعمها الرئيس خافيير ميلي، اليميني المتطرف وأحد أبرز حلفاء الرئيس الأمريكي ترامب، فقد بدأ حملته الانتخابية في نهاية عام 2023 بتوجيه أقسى العبارات المسيئة إلى الصين، ولكن بعد أشهر قليلة من توليه منصبه، سارع إلى زيارة الصين، وتحولت في خطاباته إلى "الشريك الأجنبي الأول والقوي"، لا سيما بعد إنعاش اقتصاد بلاده بحزمة قروض سخية في أحلك أزمة مالية واجهتها حكومته.
وقد عكس حرص الحكومة الأرجنتينية على الحفاظ على العلاقات مع العملاق الآسيوي وعدم التضحية بها، عدم ثقتها بـ"إخلاص" غير مربح مع الشريك الأمريكي "وحده".
ويلخص المتخصص في العلوم الجيوسياسية ومؤلف كتاب "الصين في النظام العالمي"، الأرجنتيني غابرييل ميرينو، مأزق الحكومة الأرجنتينية في الرأي التالي:
"الولايات المتحدة تطالب حكومات الدول اللاتينية بتقويض الاستثمارات الصينية، لكنها لا تقدم لهم سوى القليل في المقابل، بل إنها تبطئ دخول المنتجات إلى سوقها من خلال فرض رسوم جمركية باهظة عليها، أما الصين فتعتمد على صبرها الإستراتيجي لتحقيق أهدافها بعيدة المدى مع منطقة أمريكا اللاتينية، وتغدق على هذه الدول في دعم مشاريع البنية التحتية التي تعود بالنفع على الجميع".
كلما سعى الرئيس الأمريكي، سواء في فترته الرئاسية الأولى أو الحالية، إلى تفعيل "عقيدة مونرو" وإحياء شعارها "أمريكا للأمريكيين" الذي أسسه الرئيس الأمريكي السابق جيمس مونرو في عام 1823، بهدف كبح جماح التوسع الأوروبي في القارة الأمريكية في ذلك الوقت، اصطدم بتغير المعطيات على أرض الواقع، بدءًا من تغير هوية العدو نفسه، من الأوروبي إلى الصيني، واشتداد ساعد الدول اللاتينية التي أصبح أغلبها يرى في هذا الشعار "هيمنة سافرة" عفا عليها الزمن.